O
أزمة التشريع
في
المجتمع الإسلامي المعاصر
أ. د/ محمد شامة
لما تكونت الدولة الإسلامية كان مرجع التشريع لقوانينها
القرآن والسنة النبوية الصحيحة، وكانت القاعدة الأساسية في استنباط الأحكام تتلخص في:
1.
الآيات القرآنية واضحة الدلالة، فلا تحتمل تعددها، وهو
ما عبر عنه "قطعية الدلالة"؛ فلا مجال فيها لرأي، وهي قليلة
العدد في القرآن الكريم.
2.
الآيات ظني الدلالة، فكانت مساحة لتعدد آراء العلماء في
تفسيرها، وهذا هو السبب الرئيسي في تعدد المدارس والمذاهب الفقهية؛ إذ كلٌّ صاغ
الأحكام حسب فهمه للآيات، والقدرات الفكرية متعددة ومتفاوتة.
3.
ما ورد في القرآن الكريم كمبدأ عام، أو قاعدة أصلية،
وتُرِك تفصليها للعلماء طبقاً لقدراتهم الفكرية، وتعدد الظروف والأحوال التي
يعيشونها؛ وذلك ما يتعلق بأحوال العباد ومعاشهم، ويتصل بدرجة تحضرهم وتقدم
إنجازاتهم وتعددها فيما يتعلق بظروفهم المعيشية ونبض أحداث الحياة ومسالك
الحضارات.
إن معظم آيات الأحكام في القرآن الكريم ظنية الدلالة؛ أي أنها تحمل أكثر من
معنى كقوله تعالى في آية فرائض الوضوء: "وامسحوا برؤوسكم"؛ فقد
اختلف العلماء في تفسيرها، فذهب بعضهم إلى أن الباء زائدة للتأكيد، وعليه فالواجب
مسح جميع الرأس؛ إذ المعنى: "وامسحوا رؤوسكم" أي كل الرأس. وذهب
آخرون إلى أن الباء للتبعيض، والمعنى: "وامسحوا بعض رؤوسكم"، ثم
اختلفوا في مقدار البعض، فقال بعضهم: لا يطلق البعض إلا على الربع، والمعنى: "وامسحوا
ربع رؤوسكم". وقال آخرون: يطلق البعض على أقل جزء، فيجوز
المسح على شعرة واحدة؛ لأنها في نظرهم يجوز إطلاق البعض عليها، وعليه
فالآية تتيح لكل الناس القيام بهذا الواجب؛ لأن من لم يستطع مسح كل الرأس فليمسح
الربع، ومن لم يستطع مسع الربع فليمسح أقل من ذلك حتى ولو شعرة واحدة، فهذا جانب
من جوانب الإعجاز في القرآن الكريم؛ لأن ورود مثل هذه الآية محتملة معاني ومتعددة
التفسير يتيح الفرصة لكل الناس على اختلاف قدراتهم الفكرية للتفسير طبقاً لمتطلبات
حياتهم، مما يجعل هذه الأحكام صالحة لكل أقطار الأرض، لأن حياة الناس على هذه
الكرة الأرضية متفاوتة؛ إذ يدرك أي باحث أن حياة الناس في القارة الأوروبية مختلفة
عنها في الأسيوية وبالتالي في الإفريقية وغيرها من القارات، بل إن حياة الشعوب في
القارة الواحدة متفاوتة ومتعددة؛ فاحتمال الآيات لأكثر من معنى يسهل على الناس
اختيار ما يلائمهم من معاني الآيات. ولا يقد على مثل هذه النوع من التعبير إلا
الله I.
فهم العلماء في صدر التاريخ الإسلامي هذا الجانب في آيات الأحكام، فتعددت
مدارسهم، وتنوعت أحكامهم، فلم يرفضوا هذا التنوع، ولم يستنكروا هذا الاختلاف، بل
عدوه من فلسفة التشريع في الإسلام وطبيعته، واعترفوا بوجود كل الآراء، وإن خالفت
اتجاهاتهم في التشريع، وأوضع تعبير عن هذا قول الإمام الشافعي: "قولي صواب
يحتمل الخطأ وقول غيري خطـأ يحتمل الصواب." وقول الإمام أبي حنيفة: "
هذا أفضل ما توصلنا إليه، فمن جاءنا بأفضل منه تبعناه." فتعدد الآراء على
هذا النحو يعتبر الحجر الأساسي لتقدم الشعوب ورقيها.
ألا فليفهم علماء عصرنا هذا الجانب المضيء من جوانب
الفكر الإسلامي -الذي ساد في عصر النهضة الإسلامية، وكان شاهداً على بلوغ الحضارة
في المجتمعات الإسلامية شأواً فاق كل تصور-فيتسع صدرهم لكل الآراء، مادامت لا
تخالف نصًّا قطعي الدلالة، ولا ينتج عنها ضرر لأي مسلم، أو ضعفاً للمجتمع
الإسلامي، أو يلحق بالجماعة المسلمة تحللا وتشرذماً، فإن حدث ذلك-وأرجو من الله
ألا نستمر قابعين في سراديب التخلف، أو ندخل في سراديب التعصب والتحزب-بدأنا في
مسيرة النهضة، ووضعنا لبنة-بل لبنات-في صرح الحضارة، فنعيد مجدنا الغابر، ونستمر
في قيادتنا للحضارة الإنسانية، أو على الأقل نشارك فيها، وإلا فسنظل قابعين في
شرنقة تفصلنا عن الحياة المعاصرة، فتحيط بنا أزمة بل أزمات متتالية، وهذا ما لا
نبغيه ولا نتمناه لمجتمعاتنا.
تنقسم آيات الأحكام في القرآن الكريم إلى ثلاث مستويات: المستوى الأول:
آيات قطعية الدلالة، والمستوى الثاني: آيات ظنية الدلالة، أي أنها تحتمل أكثر من
معنى، وقد شرحناهما في الفقرات السابقة. المستوى الثالث: آيات تتعلق بظواهر قابلة
للتجديد والتطوير؛ ولذا فهي ترسم مبادئ عامة وتترك التفاصيل والتطبيقات للعلماء
يبينونها طبقاً لأسلوب الحياة في مجتمعاتهم، ومواكبة متطلبات العصر، كي تلبي
احتياجات المجتمعات فترسم الأسلوب الذي يتفق مع درجة التحضر، كي يلائم ما يتطلبه
"رتم" الازدهار الحضاري؛ لأن القضايا الكلية
في الإسلام هي قواعد التشريع الأساسية التي تصلح لكل الشعوب ، وتلبى احتياجات كل
المجموعات البشرية ، على اختلاف ألوانها وأجناسها ، وتتناسب مع كل عصر وبيئة ؛ إذ
يتخذها الجميع أساساً تُسْتَنْتَج منه أحكام لكل القضايا ، وعلاج لكل المشاكل التي
تواجه الإنسان والمجتمعات ، فكانت هذه المبادئ الرئيسية في التشريع أساساً
للاجتهاد في مجال الأحكام الشرعية الذى بمقتضاه تكونت المذاهب الفقهية ، فزخرت
بالأحكام والتفريعات التي كانت منها فروض مقدرة الحدوث في الأزمان المستقبلة.
كان هذا العمل في مجال
التشريع دليلاً على مرونة الفقه الإسلامي، وصلاحيته لمواجهة الأحداث التي تظهر،
نتيجة لديناميكية الحركة في مجالات الحياة المختلفة، وعنصراً جوهرياً في مفهوم
عالمية الإسلام.
فقد جاء في القرآن الكريم آيات كثيرة رسمت قضايا كلية في مجالات الحياة
المتعددة، نذكر منها على سبيل المثال قوله تعالى: ﱡﭐ
ﲎ ﲏ ﲐ ﲔ ﱠ [ الشورى: 38 ]
فهذه قضية توضح أن الإسلام
يحث على ألا يكون الأمر في المجتمع ديكتاتورياً، بل ينبغي أن يقوم على أساس الشورى،
ولم يحدد لهذه الشورى صيغة معينة، بل تركها لظروف كل عصر، وطبيعة كل بيئة.
كذلك لم يحدد في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱠ [ الأعراف : 32 ]، أنواع
الزينة ، أو أشكالها وهيئاتها ، بل ترك ذلك لمقتضيات الزمان والمكان ، بشرط ألا
يكون في ذلك اقتراف لمعصية ، أو تناول لخبيث ، كما في قوله تعالى : ﭐﱡ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﲐ ﱠ [الأعراف: ١٥٧]
فهذه وأمثالها – وهو
كثير في التشريع الإسلامي– أمور كلية وضعت الأساس الذي يحفظ كيان المجتمع، وحددت
الإطار الذي يتحرك بداخله الفقهاء والمشرعون لمواجهة متطلبات العصر والبيئة، بحيث
لا يقف الدين الإسلامي عقبة في طريق التقدم والرقي.
هذا هو مفهوم آيات الأحكام في القرآن الكريم؛ إذ لما كان الإسلام لكل الناس على
اختلاف بيئاتهم ونظم حياتهم ، حيث تختلف ظروف الحياة في كل عصر وقُطْر، وتتجدد
الأحداث وتتشعب عبر الأيام والسنين ، فلابد أن يكون التشريع مُلَبِّياً لكل ما
يحتاج إليه الفرد ، و تستلزمه حياة المجتمعات ، ولهذا جاء كل ما يتعلق بهذه المتغيرات
في صور مبادئ كلية ، وقواعد تصلح لكل المجتمعات الإنسانية ، ويمكن تطبيقها أيضاً
في كل أقطار الأرض على اختلاف أساليب حياة من يسكنوها ، وتباين معيشتهم ، ثم ترك
الفروع – وهى مركز الاختلاف بين سكان المناطق المختلفة – وعلاج ما يجد من أحداث –
وهى لازمة من لوازم الحياة الإنسانية – للفقهاء ، يستنبطون أحكامها من الأصول
العامة، قياساً ، أو حملاً للخاص على
العام ، أو حملاً للمطلق على المقيد ، أو غير ذلك من طرق استنباط الأحكام داخل
الإطار العام للأحكام الإسلامية .
وبذلك تصبح الشريعة
الإسلامية صالحة لكل المجتمعات الإنسانية في جميع الأقطار، وفى كل العصور، إذ يمكن
أن تطبق على الناس جميعاً على اختلاف أساليب حياتهم، ونظمهم المعيشية، فالاختلاف
بين المجتمعات ليس إلا في أمور فرعية، أما الشكل العام للحياة، فالناس جميعاً سواء،
ولهذا جاءت شريعة الله دقيقة ومحددة فيما يتعلق بهذا الجزء الذي لا يختلف فيه
الناس. أما الفروع التي يتناولها التغيير بسبب اختلاف المناطق، أو بسبب تجدد الزمن
وتعاقب العصور، فقد تُرِك أمر استنباطها للفقهاء بشرط ألا تخرج عن الإطار العام
للتشريع الإسلامي.
فالاختلاف في
هذا الجانب إيجابي وليس سلبي، إذ هو يساعد على تحقيق مبدأ العالمية في الإسلام،
فيتيح لكل إنسان على وجه الأرض أن يعتنقه دون حرج، ويلتزم بتأدية تشريعاته بسهولة
ويسر، ولا يقف عقبة في طريق التقدم والرقي.[1]
أدرك الفقهاء فلسفة التشريع الإسلامي من خلال فهمهم
لمستويات آيات الأحكام في القرآن الكريم، فتعاملوا معها في استنباط الأحكام بما
يتفق مع هذه الفلسفة، فسلموا بمفهوم الآيات قطعي الدلالة دون أن يحيدوا عنه،
وأيقنوا أن المستوى الثاني، وهي الآيات التي تحمل أكثر من معنى، والمستوى الثالث،
وهي الآيات التي تعبر عن المبدأ العام وتُرِكَت التفصيلات والتفريعات لمفهوم
الفقهاء طبقاً لقدراتهم الفكرية، وتلبية لمقتضيات عصرهم، فكان ذلك تطبيقاً
وتنفيذاً لمبدأ الاجتهاد الذي حث الإسلام العلماء على ممارسته، وكان بابه مفتوحاً
على مصراعيه، فصال العلماء وجالوا فيه إنتاجاً لآراء متعددة، واتجاهات فكرية
مختلفة أسهمت في بناء حضارة فريدة في العالم لن تضارعها أي حضارة على امتداد
التاريخ الإنساني؛ لأن لبناتها كانت حرية الرأي، فتعددت في مضمونها واتجاهاتها مما
أمد الحضارة بروافد متعددة ازدهرت بها المجتمعات الإسلامية، فتقدمت وامتلأت جداولها
بتيارات وضاءة، ومدارس ضمت آلاف، بل عشرات الآلاف من المفكرين المبدعين، والعلماء
المبتكرين، فتركوا لنا تراثاً ضخماً، ضم العديد من الصور الفكرية، والمبادئ
الراسخة، حيث قام عليها بناء حضاري لازلنا نتغنى به، ونكشف غطاءه لمن ينكر علينا
جهدنا الفكري ويصمنا بالعقم الحضاري.
وعندما تجمد الفكر، فلم يعد قادراً على الابتكار
والإبداع، انجرف إلى التقليد والبحث في طيات الكتب عن آراء العلماء السابقين،
واستغلق عليه فلسفة مستويات التشريع في القرآن الكريم، فاستنكر آراء الآخرين،
واتهمهم بالزندقة، فحاربهم حتى انطفأ مصباح الابتكار، وتوارى المبدعون؛ فلم يجرؤوا
على إعلان ابتكاراتهم وإبداعهم في مجال التشريع، فانطفأت أنوار الحضارة، وتوارت
مصابيح التقدم والازدهار، فانزلق المجتمع إلى قاعٍ سحيق، يردد علماؤه فيه أن باب
الاجتهاد قد أُغْلِق، ولا ندري: "من أغلقه، وأين مفتاحه" ، فظلوا
يرددون ما أبدعه الأولون، غافلين عن أن كثيراً منه كان ملائماً للحياة في عصرهم،
ولم يعد مناسباً للعصر الحالي، وذلك لأنهم نسوا المستوى الثاني والثالث في فلسفة
التشريع في القرآن الكريم كما بيناها سابقاً؛ فساد عُقْم الفكر، وطُمِسَت معالم
الحضارة في طيات ترديد ما قاله السابقون ملائماً لعصرهم ولم يعد له مكان في العصور
التالية لهم.
ظل باب الاجتهاد مغلقاً قروناً عدة، ودار الفقهاء خلفه
يرددون ما قاله السابقون، فَحَرَّموا كل ما هو جديد في المجتمع؛ لأنهم لم يجدوا
للسابقين رأياً فيه؛ لأنه لم يكن موجوداً في عصرهم، واستمروا في دورانهم في الكتب
القديمة حتى فاجأتهم جحافل المجتمعات التي قطعت شوطاً واسعاً في مسيرة التقدم،
فأصبحوا وجهاً لوجه أمام معطيات العصر الجديد، حيث لم يجدوا لها آراءً تناسبها في
الكتب القديمة، فوقعت الأزمة، حيث نشب الصراع في المجتمعات الإسلامية بين من يدعون
إلى مواكبة العصر، ومن يتشبثون بآراء العصور الماضية التي لا تناسب أحداث العصر
ومتطلباته، فتحول المنادون بمواكبة العصر إلى ساحة الدول المتقدمة ليبحثوا في
فضائها عن مبادئ وقوانين تساعدهم على اللحاق بركب التقدم، فأخذوا منها ما يلائم
العصر من قوانين طبقوها في جميع مجالات الحياة تاركين للمتمسكين بالماضي مجال
قوانين الأسرة يصولون ويجولون فيه بعيداً عن ساحة القوانين التي ترسم للمجتمع
أسلوب حياته، فانكمشت قوانين الأسرة في آراء الفقهاء القابعين في أروقة المذاهب
الفقهية وآرائها التي توصل إليها العلماء في العصور الماضية، وليتهم ارتكنوا إلى
آراء المدارس المختلفة فأخذوا منها ما يقارب أسلوب العصر، حتى وإن كان من مدارس
فقهية مختلفة، بل حصروا أنفسهم في مدرسة واحدة، ألا وهي المدرسة الحنفية، ويشهد
على ذلك ما نسمعه من جملة يحفظها عامة المسلمين، وهي ما يقوله المأذون في عقد
الزواج: ".... وعلى مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان...." وكأن عقد
الزواج لا يكون صحيحاً إلا إذا كان على هذا المذهب دون غيره، وبذلك دخل الفقهاء في
فتاويهم شرنقة داخل شرنقة، فبعدوا عشرات -بل مئات-الأميال عن فلسفة التشريع
الإسلامي وبالتالي عن الحياة المعاصرة.
أ.د/ محمد شامة