إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 2 أكتوبر 2021

 

P

 

                            الإسلام والديمقراطية

أ‌.        د/ محمد شامة

 

أثبتت الأحداث التاريخية أن مرحلة التطور من أخطر المراحل التي تمر بها المجتمعات البشرية، لأنها مرحلة الصراع الحاد بين التيارات الفكرية المختلفة في منابعها ومصادرها، والمتنافرة في مضمونها وأشكالها، والمتباعدة في أهدافها وغاياتها، ذلك أن نظام الكون قائم على مبدأ الحركة والنمو، وأساس ديناميكية الحياة منحصر في التغير، فإن غاب ذلك عن أذهان الناس توقف نبض الوجود، وسكنت حركة الحياة إلى الأبد. لكن تعود الناس على المألوف، وخوفهم من المستقبل، دفعهم إلى الاعتقاد بأن كل جديد يحمل في طياته خطراً داهماً ينقض الأسس التي استقرت عليها حياتهم، ويزعزع الاستقرار الذى ألفوه وتعودوا عليه، حتى وإن كان سبباً فيما هم فيه من انحطاط وتخلف، فهم يرضون بما وجدوا عليه آباءهم، وشبوا وترعرعوا في ظله، وإن كان في بعض جوانبه ما يعوق مسيرة تقدمهم، وبعجزهم عن الوصول إلى ما يزيل عنهم أثقالهم، ويخفف عنهم آلامهم. ومن هنا يبدأ الصراع بين: من ينادى بالتخلص من آثار الماضي، ويدعو إلى فتح الذراعين لكل ما هو جديد، وقبول كل   مستحدث، لأن ذلك – في رأيه – يدفع عجلة الحياة إلى التقدم، ويساعد على التخلص من آثار الماضي، حيث التخلف والانحطاط في جميع مجالات الحياة.

ومن يرفض التجديد ويصر على التمسك بالقديم مهما كانت قيمته وأثره في الحياة، فهم يرون أن الجديد لا وزن له، فلا يجوز قبوله، ولا جذور له تثبت وجوده في المجتمع، وتحمل الإنسان على التعامل معه، فهو " بدعة " تضل من يتبعها فتقوده إلى واد سحيق، يفقد فيه هويته، وتذوب ملامحه في خضم الصور والأشكال الجديدة فتتلاشى ذاته، ويتفكك كيانه بصيرورته تابعاً من توابع هذا الوافد الجديد.

وبين هؤلاء وأولئك فريق لا يتحمس للجديد، بل تضطره ظروف الحياة إلى التعامل معه، ولا يتنكر للقديم، ولكنه يغمض الطرف عنه تحت ضغط الظروف المعيشية، ويبتعد عنه أمام معطيات العصر ومتطلبات الحياة، ولذلك تراه مضطرب الفكر، مشوش الفؤاد، تتنازعه الاتجاهات المتعددة، وتتقاذفه التيارات الفكرية من كل صوب وحدب، يسمع لمن يتمسكون بالقديم فيميل كلية إليه، وتستأنس عواطفه بما يرددونه من حجج وبراهين، لأن جذور القديم تمتد في أعماقه، وتتشعب في أحاسيسه وعواطفه. ويصغى إلى الذين ينادون بالتجديد فلا ينكر لهم صوتاً، ولا يرفض لهم حجة أو دليلاً، لأن واقع الحياة يؤيدهم، والرغبة في التقدم والرقى تصدقهم، والأمل في التخلص من سيطرة من ملكوا زمام تكنولوجيا العصر تساندهم، وتحمل المترددين إلى الانحياز لصفوفهم.

فإذا كان موقف المجددين والمحافظين واضحاً، فإن موقف سواد الأمة يظل متأرجحاً، فهو بتذبذب بين هؤلاء وأولئك، وأحياناً يميل كل الميل إلى جانب المجددين، وذلك عندما تتغلب المصلحة الدنيوية، ويتضح أثر الحضارة وبريقها في العيون والأسماع، وأحياناً أخرى يتعصب للقديم، إذا تغلبت المشاعر، واتقدت العواطف، وتأججت الأحاسيس.

هذه هي صورة المجتمعات الإسلامية المعاصرة، إذ عندما اتصلت اتصالا مباشراً بالحضارة الغربية، تفتحت أعين المسلمين على أنماط من الحياة، ونماذج من السلوك، لم يعرفوها من قبل، وليست لهم دراية بكنهها وأبعادها، اللهم إلا ما وقر في أذهانهم بأن ما عليه تلك الأمم من تقدم ورقي في مجال الإنتاج بجميع فروعه، راجع إلى اختيارهم لهذه الأساليب في تنظيم شئون الحياة، وتوجيه سلوك الأفراد في المجتمع، فاندفع فريق من المسلمين ينادى بالتخلص من كل آثار الماضي، واتخاذ نماذج الحياة الغربية أساساً لنا في تنظيم حياتنا، وتشكيل سلوكنا حتى نستطيع اللحاق بهم في مسيرة التقدم والرقي. ومن بين ما اشتملت عليه هذه الدعوة: المناداة بأن نقتفى أثرهم في كل المجالات، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، ويستلزم هذا أن نحرر هذه المجالات من سيطرة الدين، بحجة أن الإسلام لم يعد مناسباً للحياة في العصر الحديث،  ولذا ينبغي أن ينحصر في مجال العبادات فقط، أي لابد أن يكون هناك فصل بين الدين والدولة، وهو ما يطلقون عليه اسم: (العلمانية)، فالدولة العلمانية هي التي لا يكون للدين فيها سلطان على أمور الحياة، بل ينحصر في دور العبادة، تاركاً شئون الحياة، يسيرها الناس بالطريقة التي يرونها صالحة لهم.

 كان من الطبيعي أن يعارضهم فريق آخر، يرى أن الإسلام دين ودنيا، مسجد ومؤسسات للحياة في جميع مجالاتها، مستدلين على ذلك بما روته كتب التاريخ من نماذج أثبتت أن الإسلام قاد أمة مترامية الأطراف، ومتعددة الأجناس والأعراق بصورة يعجز أي نظام عن بلوغ مثلها في تحقيق: الحرية، والعدل، والكفالة الاجتماعية، وفى تهيئة الظروف التي تساعد على التقدم والابتكار والاختراع. فإذا أردنا الإسراع في ركب الحضارة فالإسلام يحقق لنا تفوقاً على جميع الأمم في هذا المجال، لو طبقناه كما ينبغي، وكما أراد الله لنا في ظله.

لم يصل كثير من المتحدثين باسم الإسلام في هذا العصر إلى درجة من الثقافة والمعرفة تمكنهم من فهم واقع المجتمعات الإنسانية المعاصرة، أو التفريق بين ما يتحتم الأخذ به في الظروف الراهنة، وما ينبغي رفضه، فلا يجوز السماح بوجوده في المجتمعات الإسلامية، بأية حال من الأحوال، مما دفعهم إلى رفض كل ما يتعلق بالحضارة الحديثة، حتى ولو لم يكن له تأثير سلبى على الجانب الديني:

-              أنكروا التعامل مع كل مظهر حضاري، حتى وإن لم ينكره الدين أو يحرمه،

-              وضعوا قيوداً على سلوك الناس اعتماداً على رأى فقيه، وليس استناداً إلى نص صريح،

-              اتسمت فتاواهم بالتضييق وتقييد حرية الناس، على الرغم من النصوص الصريحة التي تبين أن الله لم يجعل على الناس حرجاً في الدين، بل هو تهذيب وتقويم في إطار السهولة واليسر.

كان هذا الموقف من بعض رجال الدين سبباً في تمسك الداعين إلى علمانية الدولة بموقفهم؛ إذ أعطاهم الدليل على أن الدين لا يصلح للحياة المعاصرة التي اتسمت بسرعة المتغيرات، وكثرة المستحدثات في جميع المجالات، فلا يمكن التوفيق بين التمسك بصيغ قديمة تعوق حركة التقدم، أو تقف حائلاً بين المجتمع وبين الانطلاق في طريق الرقى والحضارة. ومما دعم به هؤلاء موقفهم، ما اشتهر بين المتطرفين من مواقف، يعتبرها صفوة الأمة من المثقفين غير مقبولة على الإطلاق في المجتمع المعاصر، وخاصة فيما يتعلق بمجال السياسة والحكم. ومن أشهر هذه المواقف ما يراه بعض رجال الدين من أن الشورى التي نص القرآن الكريم على أنها من الصفات اللازمة للمجتمع الإسلامي غبر ملزمة   للحاكم؛ إذ يعتبر العلمانيون هذا الموقف منافياً للديمقراطية التي تعارفت المجتمعات في العصر الحديث على أنها الأسلوب الأمثل في إدارة شئون الحكم، فإذا جاء من يجردها من مضمونها الأساسي، ويبطل مفعولها الأصلي، فإن من الطبيعي أن يجد معارضة قوية، حتى ولو تدثر بثياب الإسلام، فما بالك برأي ليس له وزن في مجال الفقه الإسلامي، حتى وإن تمسك به من يصف نفسه بأنه فقيه. لكن العلمانيين تلقفوا هذا الرأي، ورفعوه سلاحاً يخيفون به من يفكر في الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في مجال الحكم، إذ ارتفعت أصواتهم بأن هذا معناه ديكتاتورية دينية، مادام الحاكم ليس مُلْزَماً برأي الذين يستشيرهم.

ومن بين ما يعارض به العلمانيون سيادة الدين في مجالات الحياة، تخوفهم من عدم وجود معارضة – أو مجال لنقد أولى الأمر – في ظل الحكم الديني، إذ يتستر الحاكم وراء قدسية الدين التي لا يجوز لأحد أن يعارضها، وبذلك يموت الرأي الآخر، وينفرد مَنْ بيده السلطة بالحكم بلا منازع، فليس هناك مَنْ يجرؤ على نقده خوفاً من أن يتهم بالخروج عن الدين. ولا يوجد مَنْ يعترض على قراره، وإلا كان متمرداً على تعاليم الدين.

ومن الغريب أن بعض الذين يرفعون هذه الأسلحة في وجه المنادين بالحكم الإسلامي لا صلة لهم بحرية الرأي في مجال الحكم، وبينهم وبين مبدأ إفساح المجال للمعارضة عداوة سجلها التاريخ في صفحاتهم، وليس في مبادئهم أو برامجهم السياسية ما يشير إلى أنهم دعاة ديمقراطية، أو أنهم يؤيدون وجود معارضة في المجتمع، أو يسمحون بممارسة النقد للأجهزة الحاكمة؛ فجذورهم ديكتاتورية، وقد مارسها بعضهم في فترة من فترات التاريخ، وما زال أئمتهم وأساتذتهم يمارسونها على نطاق واسع، فكيف يتخذون ما يسمونه "ديكتاتورية رجال الدين " سلاحاً يخيفون به عامة الناس، وجماهير الشعب في المجتمع الإسلامي.                                          

إن معارضة العلمانيين للحكم الإسلامي بحجة أنه يعوق حركة التقدم والرقى في المجتمع، غير مبررة؛ فتعاليم الإسلام تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول يتعلق بالعبادات، وهي مفصلة ومحددة، فلا يجوز لأحد تغييرها، أو تحويرها، فعلى المسلم أن ينفذها كما وردت بدون زيادة أو نقصان في الأصول المتفق عليها فيها.

أما القسم الآخر، وهو ماعدا العبادات – أي ما يتعلق بشئون الحياة – فقد أباح الإسلام للمسلمين أن يجتهدوا فيها، وإن اقتضى الأمر تطويرها، فلهم ذلك ما داموا ملتزمين بالإطار العام. ومما يوضح هذا الاتجاه ما قرره الإسلام في مجال الحكم، فقد اشترط أن يكون الأمر شورى، أي لابد من إفساح المجال لكل امرئ أن يبدى رأيه، وما عدا ذلك من شكل أو هيئة الحكم فمتروك أمره للناس، فلهم أن يختاروا ما يناسبهم، ولهم أيضاً أن يغيروا ما طبقوه إن رأوا فيه نقصاً، بشرط أن يكون النظام الذي يقرونه – أياًّ كان نوعه وشكله – قائماً على أساس الشورى، ومشتملاً على مبدأ إتاحة الفرصة لكل فرد أن يبدى رأيه.

هذا هو المنهج الإسلامي الذي يبيح الانفتاح على كل الأفكار والتجارب السياسية والاقتصادية في العالم، ويسمح بالأخذ منها بما يمكن الدولة الإسلامية من الانطلاق والتقدم، والأخذ بكل عناصر الرقي العلمي والسياسي والاقتصادي. فإذا نودى بتطبيق الشريعة الإسلامية، فينبغي أن يفهم كل ذي عقل راجح، أن مبدأ الشورى أساسها، ففي ظله يمكن أن تطبق الديمقراطية بمعناها "الليبرالى"، أي بتعدد الأحزاب، وقيام المؤسسات الدستورية، إن كان في ذلك مصلحة للمجتمع، إذ أن من بين القواعد العامة في الفقه الإسلامي: "حيثما توجد المصلحة فثم شرع الله"، فلو تعددت آراء الفقهاء في مسألة ما، فلا يُقَر منها ويصبح قانوناً يلتزم به الجميع إلا ما يحقق مصلحة الناس، بناءً على ما ترتضيه الأغلبية طبقاً لمبدأ الشورى، وبهذا ينتفى ما يلوح به العلمانيون من الحيرة أمام كثرة آراء الفقهاء حول المسألة الواحدة، ويتلاشى خوفهم من فرض المتشددين آراءهم بالقوة. فمبدأ الشورى الذى قرره الإسلام يتنافى مع فرض الرأي بالقوة، ويتيح الفرصة للآراء التي تحقق مصلحة الناس للتغلب على الآراء الأخرى ..... حتى وإن كان أصحابها يتدثرون بثياب الإسلام، ويضعون على رءوسهم قلنسوته أو شارته.

أما ما يتعلل به العلمانيون من أن فترة ازدهار الحكم الإسلامي – حيث سادت العدالة كل جنبات الدولة، وتمتع الناس بحرية الرأي، وطُبِّق مبدأ المساواة بينهم، فاختفت العصبية القبلية، والطائفية  العرقية – كانت قصيرة؛ إذ لم تتعد عصر الخلفاء الراشدين – باستثناء النصف الثاني من حكم الخليفة الثالث – وعصر عمر بن عبد العزيز، الذى لم يتجاوز ثلاث سنوات، ثم ظهرت العصبية، فقضت على حرية الرأي في اختيار الحاكم، ومحت كل – أو على الأقل معظم – ما ينادى به الإسلام في مجال الحكم والسياسة، فلا نريد أن ندخل معهم في مناقشات بيزنطية حول معالم الحكم الإسلامي في عصور ما بعد الخلفاء الراشدين ، لأن ذلك سيقودنا إلى متاهات لا آخر لها ، ويكفى في هذا المقام القول: بأننا إذا سلمنا جميعاً بأن الإسلام قد أرسى قواعد دولة "ديمقراطية"، وأمكن تطبيقها في ذلك العصر، حيث كان تحقيق الديمقراطية حلماً بعيد المنال، بل إنه كان من المستحيل تحقيق ذلك في وسط عالم تسيطر عليه الديكتاتورية بجميع ألوانها، سواء كانت عرقية، أو طائفية، أو دينية، فإن ذلك دليل على سهولة التطبيق في عصرنا، الذى تغلبت – أو كادت تتغلب – فيه نغمة الديمقراطية على ما عداها.

فالمبادئ التي أثبتت وجودها في عالم الظلمات الحالكة، قادرة على أن تثبت فعاليتها بشكل أفضل في وقت خفت فيه حدة هذه الظلمات.

ويرى بعض المعارضين لمبدأ سيادة الدين على توجيه وتنظيم الحياة في المجتمع أن أساليب الحياة قد تغيرت تغيراً جذريًّا، بحيث أصبح من المتعذر تطبيق مبادئ وتعاليم العصور القديمة في المجتمع المعاصر؛ إذ كيف يمكن أن يتعامل إنسان العصر الحديث بأسلوب يتنافى مع طبيعة حياته المعاصرة؟ وكيف يخضع الإنسان في القرن الواحد والعشرين لأحكام صيغت لتنظيم حياة إنسان القرون الأولى، حيث البداوة والبساطة وعدم التعقيد؟ وبالإضافة إلى ذلك فإن ما كان مقبولاً لدى المجتمعات   البدائية، فإنه أصبح غير مستساغ لدى الإنسان المعاصر، بل إن من القضايا التي كانت من المسلمات الأولية التي لا تقبل الشك في الماضي ترفضها العقول الآن رفضاً باتًّا، ولا تتجاوب معها المشاعر والأحاسيس، لأنها لا تتفق مع درجة الحضارة الحالية، ولا تلبى مطالب الحياة المعاصرة، ولا تتناغم مع معطيات العصر، بل تنفر منها ولا تستسيغها.

وينقسم الرد على هذه الحجج إلى قسمين: قسم يتعلق بقضية المتغيرات، والقسم الآخر يتناول الركائز التي تقوم عليها الحضارة، ويبنى عليها تقدم الأمم والشعوب.

أما قضية المتغيرات، فإنه مما لا شك فيه أن الله خلق الكون، وجعل الحركة مبعث الحياة فيه، فلو توقفت هذه الحركة انعدمت الحياة كلية. ومن لوازمها التغير الدائم، إذ لا يستمر شيء على وجه الأرض على حالة واحدة في لحظتين، بل هو في تفاعل مستمر وتغيير مطرد، ولهذا نرى المجتمعات التي لا تدرك هذا القانون الإلهي يصيبها الشلل عندما تبطئ حركتها، أو تتجاهل حتمية الحركة التي هي أساس التطور والتقدم، ومنبع الرقى وبناء الحضارات.

ولما كان هذا المبدأ هو أساس التقدم المطرد، فإن من المحتم ألا يبقى مظهر من مظاهر الحياة ثابتاً، وإلا كان عائقاً يعوق سير الحياة في مجراها الطبيعي، لذا كان لابد للإنسان أن يغير في أسلوب حياته كي يتلاءم مع سنة التطور، ويعدل من قوانينه لتنسجم مع صور الحياة المتجددة، وتلبى احتياجات المجتمع، التي تنشأ عن التفاعلات المستمرة في الظواهر الاجتماعية، فإن تقاعس أبناء الأمة عن القيام بهذا العمل، أو اعتقدوا أن ما خلفه الأجداد لهم أمر لا ينبغي تغييره، لأنه من الأمور المقدسة، التي لا يجوز محوها أو الاستغناء عنها أو تعديلها، فقد حكموا على أنفسهم بالجمود، وضربوا بينهم وبين التقدم سياجاً يحول بينهم وبين مشاركتهم في بناء الحضارة العالمية.

ولكن لا ينبغي أن يفهم المرء من هذا القانون الكوني أن كل شيء في حياة المجتمع في حالة تغير وتجدد مستمر، لأن ذلك يؤدى إلى الاضطراب وعدم الاستقرار، فللنظم والقوانين المتغيرة جوانب ثابتة لا تتغير حتى يكون للحياة استقرارها. كما أن لحياة الناس وسلوكهم الاجتماعي أسساً لا تتغير، ومبادئ لا تتبدل؛ إذ لو خلت الحياة من عناصر ثابتة ومبادئ مستقرة لأصيب المجتمع بحمى التغير والتبديل المستمر الذى لا يهدأ ولا يستقر، فترتبك الحياة وتضطرب، وتختلط الأمور وتتشابك، فتقع العقول في حيرة، وتصاب الأمة بالشلل؛ إذ تعجز عن تحديد مفاهيم ما يدور حولها، فما كان بالأمس صالحاً أصبح اليوم طالحاً، وما تمسكت به في الماضي القريب لاعتقادها أنه مناسب لحياتها، تستنكره اليوم وتنظر إليه بعين الاستهزاء والسخرية.

غير أن قدرة الإنسان تعجز عن وضع مبادئ تحافظ على الاستقرار، وفى الوقت نفسه لا تعوق التغير الذى تطلبه حركة التقدم والتحضر، ولا تمنع التجديد اللازم لمسيرة التطور الحتمي في محيط الإنسان، لأنه مهما بلغت كثرة الصور الفكرية في ذهنه عن الماضي والحاضر في مجال المتغيرات والثوابت، فإنه لا يستطيع معرفة المتغيرات المستقبلية بصورة تمكنه من وضع ما يلائمها في القوانين التي تنظم حياة المجتمع وتحدد سلوك أفراده، فإن استطاع التنبؤ بما يحدث على الساحة الاجتماعية في المستقبل القريب استنتاجاً من الظواهر المشاهدة، فلن يكون تقديره سليماً بالنسبة لما يحدث بعد قرنين أو ثلاثة قرون، فالعقل البشرى عاجز عن أن يضع قوانين ونظماً ترتكز على مبادئ كلية ثابتة لا تتغير، حتى يكون للحياة استقرارها، وفى الوقت نفسه تسمح بالتغيير اللازم لحركة التقدم والرقي، لأن إمكاناته الذهنية مرتبطة بعصره، ومحددة بإقليمه، لذا كان لابد لتحقيق هذين العنصرين – وهما: الثبات في المبادئ الكلية، وإمكانية التغيير في التفاصيل الفرعية لمواجهة التغير المستمر – من أن تكون قدرة واضع هذا القانون غير محددة الزمان والمكان، ليستطيع وضعه كاملاً دون أن يصيبه خلل أو ضعف ، أو يطرأ عليه في وقت ما عدم ملاءمته للظروف المتغيرة، ولا يقدر على ذلك إلا الله سبحانه وتعالى.  

ولهذا وضع الله تشريعات تضمنت قواعد كلية تصلح لكل الأزمنة والعصور، وتتمشى مع ما ينبغي أن تكون عليه الحياة من الاستقرار، وتتفق مع الظواهر التي يشترك فيها جميع الأجناس البشرية. أما التفاصيل والتفريعات فقد تركها الله لعقل الإنسان يستخلصها حسب عصره وبيئته، ويستنتجها طبقاً لمتطلبات ظروفه المحيطة به، بحيث يلبى احتياجات العصر، وفى الوقت نفسه لا تخرج عن الخط الرئيسي الذى رسمه الإسلام كمبدأ عام يلتزم به الجميع، أو كدستور يتخذه الناس قاعدة أصلية للتشريع، ينبثق عنها كل ما يقررونه من قوانين، وما يرسمونه لأنفسهم من لوائح ونظم.

ويكفى نظرة واحدة إلى ما يشغل المجتمعات من قضايا كبرى – وهى على سبيل المثال لا الحصر: الشورى في مجال الحكم، وحرية النقد في جميع مجالات الحياة، وقضية المساواة بين الناس على أساس القدرة الذاتية لا على أساس عرق، أو لون أو أي مظهر من مظاهر الحياة المادية، والعدل في توزيع الثروة القومية، وغير ذلك من الأمور التي تقوم عليها حياة المجتمعات، وتؤثر تأثيراً بالغاً في رقي الأمم والمجتمعات – وموقف الإسلام منها، تبين أنه جاء موافقاً فيها – وفى غيرها من القضايا الأساسية – لقوانين الحياة؛ إذ رسم قواعد ثابتة، وترك التفصيلات والتفريعات للفقهاء، لتكون مجالا للاجتهاد والاستنباط، سعياً وراء الصيغ القانونية التي تلائم بيئاتهم وعصورهم.

وعلى هذا الأساس وجهت الدعوة إلى كل من على وجه الأرض ليدين بالإسلام، لأنه النظام الذي يوافق طبيعة الحياة وحركتها المستمرة، ويتلاءم مع ما تطلبه من قواعد ثابتة، تقوم عليها المتغيرات كي لا تنهار، أو تتبدد معالمها وسط هذا السيل الجارف من الأحداث المتجددة.

فمن يتخذ المتغيرات في الكون وفى الحياة دليلاً على عدم ملاءمة الإسلام للحياة المعاصرة، لأن معطيات العصر تختلف كلية عما كان موجوداً في القرن السادس الميلادي، فإنه لا يعرف خصائص التشريع الإسلامي، ولا يدرك ركائزه، لأن المبادئ الأساسية في حياة المجتمعات البشرية لا تتغير، فتلك هي ما نصت عليها الشريعة الإسلامية. أما ما يلائم المتغيرات من الفروع والتفصيلات فقد تركها الإسلام لاجتهاد الفقهاء والمشرعين، يصيغونها حسب متطلبات العصر وظروف البيئة، مما أعطى للإسلام صلاحية التطبيق في جميع العصور ومختلف البيئات.

وما يدعيه المعارضون لتطبيق الشريعة الإسلامية من أن سيطرة الدين تعوق حركة  التقدم، وتعرقل مسيرة الرقي الحضاري، بما يفرضه "رجال الدين" على الفكر من قيود، وما يمارسونه – بحكم موقعهم الروحي  – من تسلط فكرى على قوى الإبداع والابتكار لدى الإنسان، مستدلين على صحة رأيهم بما حدث في أوربا في عصر النهضة ، إذ لم يستطع الأوربيون بناء حضارتهم إلا بعد أن تخلصوا من سيطرة الكنيسة، وتحرروا من أفكار رجال الدين التي كانت تحرم عليهم كل جديد، وتمنعهم من ممارسة النقد، وإلا حكم عليهم بالكفر والزندقة، فإن هذا الادعاء يحتاج إلى وقفة متأنية نناقش فيها بهدوء ما علق في أذهان هؤلاء الناس عن التسلط الديني، وتحكم المؤسسات الدينية في حركة الفكر ومسار الحضارة.

لم يعط الإسلام أحداً – مهما كان مركزه – الوصاية في الفكر على الآخرين، كما كان وضع البابا في المجتمع المسيحي قبل عصر النهضة، كما أنه لم يبرئ أحداً من الخطأ – أو بالتعبير الاصطلاحي: لم يعصم أحداً من الخطأ – بحيث يفرض رأيه على المجتمع، بحجة أنه لا يجوز نقده، لأن النقد لا يوجه إلا لمن يخطئ، وما دام خطؤه مستحيلاً، فنقده جريمة يعاقب عليها من يتجرأ على مخالفته، كما هو وضع البابا بالنسبة للمسيحيين. فإذا انتفت الوصاية الفكرية في الإسلام، فإنه يحل لكل فرد في ظله أن يفكر بحرية، ويعبر عن تفكيره دون حجر عليه، ومن غير قيود تفرض على حرية التعبير عن رأيه. وكان مبدأ انتفاء العصمة عن الإنسان أثر في اتساع حركة النقد، إذ أنه أجاز نقد أي فكر مهما كان مركز صاحبه، فليس هناك من يتمتع بحصانة ضد الآراء المخالفة له، حتى وإن علا شأنه في المناصب الروحية، فتقلد أعلى المناصب الرسمية، أو تربع في مقام من يعتقد العامة في قداسته، لقربه – حسب ما يعتقدون – من صاحب الرسالة نسباً أو علماً، أو تقوى وصلاحاً.

فإذا نظرنا إلى ركائز النهضة في أي مجتمع إنساني، لوجدنا أن حرية الفكر – وعدم الوصاية عليه – تحتل المركز الأول، لأن استمرار التقدم لا يتحقق إلا إذا كان المجتمع قادراً على التجديد والتطور في الفكر، وفى ظروفٍ تمكنه من معرفة الصالح من الطالح، وتضمن له حرية تطبيق ما يساعده على دفع عجلة التقدم إلى الأمام، ويعينه على استمرار الفاعلية في البناء والرقي. ولما كان الإسلام قد هيأ للمسلم هذه الظروف – بما قرره من مبدأ حرية الفكر لكل إنسان، وبما بينه للناس من عدم وجود إنسان معصوم من الخطأ – فإن ما يدعيه المعارضون من أن تطبيق الشريعة الإسلامية يعوق حركة التقدم، ويعرقل مسيرة الرقى والحضارة، يصبح غير قائم على دليل سليم ، بل إن النصوص تكذبه، وروح مبادئ الإسلام ودعائمه تنكره؛ فهناك آيات عدة تدعو إلى البحث والنظر والاستكشاف، كقوله تعالى: ﱡﭐ     [العنكبوت: ٢٠]، وقوله :ﭐﱡﭐ   ﲿ                  [ الغاشية: ١٧ - ٢٠ ]

لم يحجر الإسلام على الفكر، حتى ولو أدى إلى الكفر به، فلم يجبر أحداً على اعتناق ما يرفضه، فقد قال الله تعالى : ﱡﭐ       [الكهف: ٢٩] ، وقال : ﱡﭐ      [البقرة: ٢٥٦ ]، ومما لاشك فيه أن ديناً يدعو إلى النظر والبحث ، ويعطى الحرية للإنسان فيما يعتقد ، لا يمكن أن يكون حجر عثرة في ريق التقدم ، بل يدفع الإنسان دفعاً إلى الإسراع في البناء والرقى ، بما هيأ له من ظروف الحرية في الفكر والتعبير.

ومما يزيد هذا الجانب وضوحاً أن الإسلام لم يُلْزِم المسلم بالعبادة إلا بمقدار ما يؤهله لعمارة الأرض، يقول تعالى: ﭐﱡﭐ          [ هود: ٦١  ] ، ولا تكون العمارة إلا نتيجة للعمل والإنتاج ، وظاهرة من ظواهر الرقى والتقدم .

فليست العبادة فيه مقصودة لذاتها، بل لما يترتب عليها من تأهيل الفرد على نحو يجعله قادراً على الخلق والإبداع، ومُهَيَّئًا للتأثير والتأثر في مجال الحضارة، تأمل قوله تعالى: ﱡﭐ        [المائدة: ٦ ]، فالطهارة لها جانبا: ظاهرة، وباطنة، فمعالمها الظاهرة هي أن يبدو الإنسان جميل الهيئة، حسن الهندام ، مرتباً في كل ما يتعامل به، منسجماً مع من حوله.

أما الوجه الآخر من الطهارة فهو: أن يكون حسن الخلق، طاهر القلب، نقي السريرة، لا يخدع أحداً، ولا يحقد على إنسان، يحب لأخيه ما يحب لنفسه. ولا شك أن الجانب المعنوي – وهو الباطني – إذا التقى مع القدرة والعطاء، فإن إنتاجه في مجالات الحياة المختلفة هو قاعدة الرقى والحضارة، وتلك هي التي تظهر آثارها على الإنسان.

ومن هنا ينبغي على المعارضين لتطبيق الشريعة الإسلامية أن يضعوا نصب أعينهم الحقائق التالية:

أولا: يدعو الإسلام إلى العمل في المجال الدنيوي، فلا رهبانية في الإسلام، فمن يدعى أن التواكل والإهمال في المجال الدنيوي من سمات الإسلام، بحجة أنه يطلب من المسلم أن يكثر من العبادات ولو على حساب الإنتاج، فليس هذا صحيحاً، فقد قال الله تعالى: ﱡﭐ     [الجمعة: ١٠ ] ، ولا يوجد أبلغ من هذا في الحث على العمل الدنيوي.

ثانياً: بَيَّن الإسلام أن غاية وجود الإنسان هو استعمار الأرض، ولا يتحقق الاستعمار فيها إلا بالرقى والتقدم، فمن يكون غاية وجوده بناء الحضارات، فلا ينبغي أن يقف سلبيًّا في ساحة معركة البناء والتقدم، فضلاً عن إعاقة حركة التقدم وعرقلة المسيرة الحضارية.

ثالثاً: لم يحرم الإسلام الاستمتاع بنتاج الحضارة، طالما لا ينتج منه ضرر، بل إنه أنكر قول من يحرمون ذلك، فقال تعالى: ﱡﭐ        [ الأعراف: ٣٢ ] بل أمر الإنسان أن يستمتع بما في الدنيا من طيبات ، فقال تعالى : ﱡﭐ   [البقرة : ١٧٢]، فمن يرى حرمة استخدام ما تنتجه الحضارة، فلا ينبغي أن ينسب رأيه إلى الإسلام، لأن نصوص القرآن الكريم لا تحرم التعامل مع أي شيء تنتجه الحضارة ، إلا إذا ترتب عليه ضرر للفرد ، أو فساد في المجتمع.

وعليه فمن يعرف هذه الحقائق، فليس له أن يعارض في تطبيق الشريعة الإسلامية، اعتماداً على ما شاع بين العامة – وكثير من المثقفين أيضاً – من أن الإسلام يعرقل مسيرة الحضارة، أو يحد من سرعة عجلة التقدم. فقد أصبح واضحاً الآن مدى تأثير العقيدة في دفع ركب الحضارة، فلو استُخْدِمت في قيادة الأمة، لأسرعنا الخطى على طريق البناء الحضاري.

وليس موقف الإسلام من قضايا الحرية والديمقراطية والحضارة، هو كل ما يجعله صالحاً لكل زمان ومكان، ومناسباً لكل البيئات والمجتمعات، بل إن منهجه كله – سواء في مجال السياسة والحكم، أو في أروقة الاقتصاد والمال، أو في قاعات البحث والدراسة ... و .... و ... الخ – وُضِعَ على أساس عدم التقيد برقعة زمنية أو مكانية؛ إذ جعل الله الإنسان في هذا كله محور مبادئه وقواعده، وهدف أوامره ونواهيه، وغاية تطبيق أحكامه وتشريعاته، فلم يكن ما فيه من عقائد وعبادات وأخلاق وأحكام إلا للعناية بالإنسان، والمحافظة عليه، حتى لا تدمره عواصف الضلال والبهتان، ولا تهدم كيانه، وتمحو ذاته ريح الحقد والعدوان، ولا تزلزل أركان مجتمعه، وتُضْعِف بنيانه أنانية فردية، أو عصبية عرقية؛ فمبادئ العقيدة في الإسلام متفقة مع فطرة الإنسان، ولذا فهي منسقة لعواطفه ومشاعره، ومنظمة لحياته واتجاهاته، وموجهة لسلوكه وعاداته، بحيث ينسجم داخلياًّ مع نفسه، وخارجياًّ مع من حوله وما حوله، فأينما وليت وجهك في البستان الإسلامي وجدت كل ما فيه من عقيدة وعبادة، ومعاملات وأحكام في خدمة الإنسان ، ويؤدى – إن طُبِّق كما أراده الله – إلى تناسق في نغم الحياة كلها ، ويؤثر تأثيراً إيجابياًّ في دفع عجلة التقدم والرقي.

وما تناولناه في كتابنا: "الإسلام دين ودنيا" هو محاولة لإلقاء الضوء على بعض الجوانب في المبادئ الإسلامية، لنوضح هذه المعاني، فمن طريق عرضنا للعقيدة ومنهجها، والدعوة إليها، ومجال الحرية فيها، والدفاع عنها، وأثرها في الحياة، وخاصة في مجال حقوق الإنسان يتضح للقارئ أهميتها للمجتمع، ومدى صلاحيتها لهذا العصر. فمن أراد توضيح هذه المعاني فليقرأ هذا الكتاب.

والله أسأل أن يكون هذا العمل خالصاً لوجهه، وأن ينير به قلب كل من يقرؤه، فيضم صوته إلى الداعين لتطبيق الشريعة الإسلامية، حتى يكتب الله لنا الصلاح والفلاح، إنه سميع مجيب.

                 أ. د/ محمد شامة

مقدمة المدونة

                  مقدمة المدونة تعددت الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني؛ إذ أدلى بدلوه في هذا المجال المتخصصون وغير المتخصصين ...